لا تعجب أن قلت لك أن حضارتنا الإسلامية الذهبية صعدت بذلك الشيء… و اختطفها منا الغرب بذلك الشيء.
قد يظن البعض أن ذلك الشيء هو من قبيل الكشوفات الجغرافية أو الحروب الطاحنة تحت مسمى “الفتوحات الإسلامية” أو “الحروب الصليبية”، لكن لو رجعنا لنسأل: كيف استطاع كل طرف أن يقوم بالكشوفات الجغرافية، وأن يصنع أحدث الأسلحة المتطورة مستفيد من خبرات الطرف الآخر؟
أترك الجواب في اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالبعثات إلى البلدان الأخرى التي تبعد عنهم مسيرة أشهر، فأول بعثة كانت إلى جرش باليمن، حيث أرسل – صلى الله عليه وسلم – عروة بن مسعود وغيلان بن سلمة – رضي الله عنهما – لتعلم صناعة الدبابة (آلة خشبية محصنة فيها رجال، مهمتهم ثقب الحصون) وقد عادت هذه البعثة بنجاح حيث تم صنع أول دبابة في حصار أهل الطائف سنة 8هـ.
يبين لنا هذا الموقف بأن البعثات أو ما يعرف حالياً بــ (المنح الدراسية) هي أساس التطور لمجتمع بدائي كالمجتمع الإسلامي الذي أخذ في الرقي والتطور حتى نال شهرة ذاع صيتها باسم (العصر الذهبي الإسلامي) الذي استفاد من حضارة الإغريق، والفرس، والبيزنطية، وبلاد السند، والصين، وغيرهم الكثير، وقد كانت العرب تقول: اطلب العلم و لو في الصين.
وقد كان في مقابل ذلك (عصر الظلام الأوروبي) الذي ساده الجهل ومحاربة الكنيسة للعلم بحجة مخالفة العلم للإنجيل، ومع الثورة الدينية والفكرية والتي تمثل البعثات العلمية أهم ظواهرها، خرج الأوروبيون من مستنقع الظلام إلى شمس النهضة، حيث استفادوا من التراث العلمي للمسلمين ومركزه الشهير آنذاك في قرطبة “عاصمة الأندلس”، وفي ذلك يقول المستشرق الانجليزي هنري جورج فارمر: أن عددا متزايداً من العلماء أدركوا أن تأثير الحضارة الإسلامية ككل في أوروبا وفي العصور الوسطى كان هائلا في مجالات مثل: العلوم الإسلامية، والفلسفة الإسلامية، وعلم الكلام، والأدب العربي، والجماليات، وقد تم الاعتراف بذلك من قبل المؤرخين.
ولا ننسى أن الطرفين تعاملا مع المنح الدراسية بأمانة من حيث النقل العلمي الصادق و نسبه لمصادره، وكذلك رجوع المبتعثين إلى بلدانهم فور إنهاء الدراسة من أجل تعزيز مجتمعهم الذي دعمهم بهذه البعثات.
وقد نجد أثناء الابتعاث تقليد المبتعث لسكان تلك البلاد في نمط حياتهم ومعيشتهم، لكن لا ينبغي أن يصل ذلك لحد المفاخرة بتلك البلاد على حساب بلدك الأم، فهذا ما ضيّع بعض أبناء المسلمين اليوم، وليتهم أخذوا عبرة من تعامل الأوروبيين مع حضارتنا الإسلامية، حيث أن الكنيسة كانت تشكو من تأثر الشباب المسحيين بالمسلمين، وتدعوهم للاعتزاز بقيمهم، وتارة تبعث بالتهديدات بحرمانهم من الجنة الأخروية حسب زعمهم!
ومن ناحيتنا فأنه من الواجب أن نعتز بقيمنا وديننا أينما ذهبنا، فلا نُظِهرُ أنفسنا مجردين من الماضي المجيد، و حالنا حاضرٌ تعيسٌ، بل نستلهم الهمة ممن سبقنا في ميادين العلم.